العمــل و النجاعــة العادلــة
الأستاذ: محمد علي كسيرة
التمهيـد: دلالــة العمـل
يقترن العمل عموما بمعنى الفعل والممارسة كجهد يبذله الإنسان، غير أن هذا التعريف يمكن أن ينطبق على الفن مما يقتضي زيادة التدقيق، ليصبح العمل جهدا ولكنه على خلاف الفن يرتبط بالإنتاج إذ العمل ليس مجرد نشاط للتسلية كالرياضة مثلا، وإنما هو ممارسة ترتبط بغايات إنتاجية .غير أن الإنتاج يرتبط عموما بالحاجات المادية البيولوجية وهذا ما جعله موضع تحقير من الفلسفة اليونانية إذ يوكل العمل للعبيد ليبقى الفكر خاصية الأحرار كنشاط ذهني يرتفع عن المادة، لقول أفلاطون: "إن الأسياد هم الذين يفكرون، ولأن لهم الفلسفة الأولى،فإنهم الأوائل في المدينة". ولم يكن العمل أكثر قيمة في الديانة المسيحية، إذ يحمل دلالة العذاب والتكفير عن الخطيئة التي ارتكبها آدم مما يجعله مقترنا في الدلالة الدينية بمعنى الشقاء والمكابدة التي لا تتحقق بقيمتها الراهنة أو المستقبلية بل بالارتداد إلى الخطيئة الأولى. وبهذا المعنى نتبين التحقير الفلسفي والديني للعمل. غير أن العمل في دلالته الحديثة يبدو مغايرا تماما لهذا التصور التحقيري فما الذي حدث حتى أحدث هذا الانقلاب في دلالة العمل؟
لقد أصبح الاهتمام منصبا نحو الممارسة في الفلسفة المعاصرة، إذ نتحدث عن فلسفة البراكسيس، وذلك لما شهدته الحضارة الغربية من ثورة صناعية لم تكن عفوية أو تلقائية بل كانت ثمرة لفلسفة العمل إذ لم يكن من الممكن أن تحدث هذه الثورة بتصور الإنسان لنفسه على أنه كائن التفكير و التأمل، بل على العكس، على أنه كائن الفعل والممارسة والقدرة على تغيير الوقائع بشكل فعلي، وهذا ما جعل الإنسانية تقترن بمعنى العمل في مختلف المستويات.
I-إنسانيــة العمــل :
1- قداسة العمل :
إذا كان العمل قد اقترن في الديانة المسيحية بسلبية التكفير عن الخطيئة فإنه على العكس من ذلك، بدا في الديانة الإسلامية مرتبطا بدلالة موجبة ذلك أنه "من بات كادا من عرق جبينه بات مغفورا له " وكذلك فـ "إن الله يكره العبد البطال " مما يعني أن العمل قد تحول من دلالة التحقير إلى دلالة القداسة، ليكتسب الإنسان قيمته من خلال فعله وممارسته. وبهذا المعنى بدا الربط ضروريا بين انتماء الفرد إلى دينه و انتمائه إلى مجتمعه من خلال هذا النشاط الذي اتخذ صفة التقديس. إلا أن البعد الاجتماعي للعمل سيشهد تطوره في التصورات الاجتماعية المعاصرة بأكثر عمق وأكثرتعقيد.
2- العمل والتماسك الاجتماعي :
إذا كان الإنسان الفرد عاجزا عن تحقيق كل حاجياته بذاته فذلك ما يجعله ضرورة في حاجة إلى عمل الآخر لحاجته إلى إنتاج غير إنتاجه. كما أن الآخر في حاجة إليه ضرورة. وهذا ما يعكسه بصورة واضحة العمل المقسم، إذ لا يقدر الإنسان على إنتاج الكل وإنما ينتج بصفة جزئية، مما يجعله مستشعرا بصفة فعلية حاجته إلى بقية العمال. كما أن العمل يجعل العامل في تبعية للعرف من جهة تبعية العمل نفسه إلى رأسالمال. بهكذا معنى يكون الإنسان قد حقق وجوده الاجتماعي من خلال إحساسه بالانتماء والتبعية للآخر، وبالمقابل يحس العاطل عن العمل بانغلاقه على ذاته وانقطاعه عن المجموعة، ليعمق فيه هذا الشعور دوافع عدوانية. لذلك يمكننا أن نسلم بما قاله فولتير "أجبروا الناس عن العمل وستجعلون منهم أناسا مستقيمين". ذلك أن العمل يستجيب لطبيعة الإنسان ككائن سعي و حركة . لكن إذا تعذر العمل لا يمكن أن يكون هذا الميل إلى الفعل إلا خارج الأطر الاجتماعية والأخلاقية ذلك أن النفس "إذا لم تلتمس لها في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا "لأن العمل "يبعد عنا آفات ثلاث :القلق والاحتياج والرذيلة "كما يقول فولتير. وبقدر ما يحقق الفرد بالعمل توازنه الاجتماعي فإنه يحقق توازنا نفسيا.
3- العمل وإشباع الطاقة الليبدية :
إن التعارض بين "مبدأ اللذة "و"مبدأ الواقع " لا يمكن أن يجد حله بكبت متواصل للذة. كما أنه لا يمكن تجاوزه بتمكين مستديم لها. بل إن الأمر يقتضي تحويل الطاقة الليبدية من الاستهلاك إلى الإنتاج.ففيما يتعلق بهذه الطاقة "لاشيء يفقد ولاشيء يخلق وإنما الكل يتحول"إلى طاقة منتجة يقبلها المجتمع. فالعمل لا يبعدنا عن رغباتنا كما لا يبعدنا عن المجتمع وإنما يضمن في الآن نفسه توازنا اجتماعيا وتوازنا نفسيا. وبفضله تجد الطاقة الليبيدية -سواء أكانت إيروسية عاطفية أم تناتوسية عدوانية- مجال تنفيسها الفعلي لأن العمل تأطير موجب لمختلف الطاقات النفسية وتحويلها بشكل منتظم نحو الإنتاج ليجيب فرويد عن سؤال "من هو الإنسان السوي ؟" بـ "إنه إنسان يحب ويعمل "
4-تقسيم العمل والانتقال من الندرة إلى الوفرة :
إن التزايد المطرد للسكان لا يمكن أن يجد حاجته في الصناعات الحرفية والأعمال التقليدية. فهذه الضروب من الإنتاج لا يمكن أن تضعنا إلا أمام أزمة الندرة، ندرة الإنتاج مقابل تزايد السكان. لذلك مثل تقسيم العمل الحل الأمثل بما يعنيه من تخصص العامل في إنتاج جزئي ليصبح من الممكن إنتاج أكثر عدد ممكن في أقل وقت ممكن. وهذا ما يمكن أن يحدث ثورة صناعية وتطور في الإنتاج. وعوض أن يرتفع عدد السكان ويتراجع الإنتاج -مثل حال الصناعات الحرفية- يصبح العكس- ينخفض عدد السكان ليرتفع الإنتاج ويصبح من الممكن أن نتحدث عن تحقيق أكثر قدر ممكن من الرفاه لأكبر عدد ممكن من السكان. وبهذا المعنى يكون تقسيم العمل مرجع رفاه الفرد ومرجع زيادة رأسـالمال وأصل التوازن الاجتماعي ومبعث القوة الاقتصادية التي بدورها تكون دافعا للقوة السياسية للدولة من خلال ما تكتسبه من دخل من خلال الضرائب وبهذا المعنى يتعدى تقسيم العمل مستوى التنظير الإقتصادي ليصبح مصدر المنظومة المتماسكة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا .و ما مجتمعاتنا الحالية إلا نتاجا لهذا التقسيم. ليكون من غير الممكن و من غير المعقول العودة من جديد للصناعات الحرفية البسيطة.
5-العمل بين إنتاج الطبيعة وإنتاج الوعي :
إذا كانت الحيوانات تولد مزودة بآليات طبيعية تمكنها غريزتها من الاستقلال عن المجموعة. وإذا كانت بعض الحيوانات تبدأ بالمشي وبمواجهة الطبيعة منفردة من يومها الأول فإن الإنسان -على العكس من ذلك- يمثل ضعفا من الناحية البيولوجية؛ فهو لا يقدر تلقائيا و غريزيا على بناء مسكنه - كالحيوان مثلا- وإنما يحتاج لكي يكون قادرا على العمل، أن يتعلم ويكتسب مهارات بشكل ثقافي لأن نقصه البيولوجي هو الذي يدفعه إلى ذلك، لقول ماركس "إن قوة الإنسان في ضعفه وضعفه البدائي". ذلك أن العمل هو الذي جعل الإنسان يتجاوز الانكفاء داخل الغريزة؛ فلقد "كف الإنسان على أن يكون قردا عندما استعمل قائمتاه الأماميتان لوظيفة غير وظيفة المشي" كما يقول ماركس، أي لوظيفة العمل .فالإنسان أدرك نفسه ككائن واع من خلال العمل الذي به تطورت التركيبة البيولوجية الغريزية إلى وعي عملي ليكون الإنسان "هو التطور وقد أدرك ذاته " كما يذهب إلى ذلك روجي غارودي . فالعمل هو الذي أنتج إنسانية الإنسان وجعله متميزا عن الأنواع الحيوانية والعمل هو الذي مكن الإنسان من أن ينتصب كقوة منتجة داخل الطبيعة فكل الكائنات تقودها غرائزها إلى استهلاك الطبيعة أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي ينتج لا ،لكي يحمي بقاءه وبقاء نوعه فقط ، بل لكي يحفظ أيضا بقاء الأنواع الحيوانية الأخرى ولكي يحفظ الطبيعة نفسها . فأقصى ما ينتجه الحيوان هو أن ينجب المثل في حين أن الإنسان يعيد إنتاج الطبيعة نفسها. فنحن لا نعيش في طبيعة طبيعية، وإنما في طبيعة هي من إنتاج الإنسان نفسه. ويجد ما نذهب إليه تأييده في قول ماركس "إن الحيوان لا ينتج إلا لذاته في حين أن الإنسان يعيد إنتاج الطبيعة كلها"وهذا ما يجعلنا نفهم أن قيمة الإنسان لا تتحدد كوعي متعال عن المادة الطبيعية ومنفصل عنها بل كوعي يتطور في علاقة جدلية بالمادة قول ماركس "في الوقت الذي يؤثر فيه بهذه الحركة على الطبيعة الخارجية ويغيرها، فإنه يغير من طبيعته ذاتها وينمي الاستعدادات الكامنة فيه"
II- الاغتـــراب :القيمـة المضـادة
دلالتــــه :
يحمل الاغتراب معنى الإحساس بالانفصال و فقدان الروابط الضرورية التي تجمع الذات بالإله في الدلالة الدينية أو الذات بالآخرين في الدلالة الاجتماعية إلا أنها تصبح أشد حدة حين تتحول إلى فقدان الذات الروابط الضرورية مع ذاتها أثناء العمل، سواء من جهة النشاط ذاته كممارسة أو من جهة الإنسان كغاية لكل ممارسة .ذلك أن الاغتراب هو بالأساس "طرد الإنسان من ذاته"على حد عبارة روجي غارودي .ليتضح الاغتراب على أنه انفصال بين الإنسان وذاته. وإذا كنا نتحدث عن الانفصام في الشخصية كحالة مرضية في علم النفس، فإن الاغتراب في العمل يبدو أكثر خطرا وأكثر فضاعة ذلك أنه يحاصر العامل في جميع المستويات .
1-الاغتراب وفقدان قداسة العمـل :
إذا كانت القداسة تجعلنا نقدم على الشيء بحماسة فائقة، فان العمل المأجور قد بدا على العكس من ذلك يثير في الإنسان نفورا مرعبا "ليهرب العامل من الشغل هروبه من الطاعون" على حد عبارة ماركس ذلك أن العمل "ليس إشباعا لرغبة "ولا يحمل أي جاذبية تجعل الإنسان يميل إليه، لأن الممارسة فقدت قيمتها لفصلها عن الحرية كمبعث للإبداع. وكذلك فقد أفقدت الغاية التجارية العامل كل قيمة؛ فحين نكون إزاء واقع الشغل تتحطم كل نزعة إنسانية للشغل نفسه؛ لقد كان الشغل في اللغة اللاتينية يقترن من جهة التسمية بآلة التعذيب. أما الآن فقد أصبح واقعة تعذيب واستلاب. ولكن ألا يمكن أن تكون التضحية بالذات ضمانا لتناغم الفرد مع مجتمعه؟
2-الاغتراب و الطابع الشكلي للتوازن الاجتماعي:
يبدو كل شيء في العمل المفتت منتظما و متوازنا و تبدو الفردية مفهوما موجبا مكن الإنسان من الاستقلال عن غيره، وأكسبه مهارات تغنيه عن الحاجة إلى غيره من العمال. غير أن التفحص في واقع العمل يبين لنا العكس، إذ أن دقة العمل المفتت و تحديدها لموقع العامل و لحركته تجعله مغتربا عن أقرب العمال إليه، إذ طالما أنه باع وقته وجهده داخل العمل، فليس له الحق في إضاعة أية لحظة في التخاطب مع غيره من العمال.فلقد أوهمتنا الرأسمالية بالحرية الفردية لتنتزع منا كل تعامل حميمي مع الآخر،إنها استبدلت قيم الإخاء و المحبة و التعاطف بقيم النجاعة و الربح والمرودية ليصبح كل شيء خاضعا للحسبان المادي ذلك أن "الصدام بين العدالة والنجاعة يظهر في أشكال لا حصر لها "على حد عبارة ايريك فايل .فالتوازن الاجتماعي الذي أنشأته هذه الوضعية لا تحكمه العدالة بل هو قائم على "تفاوت حظوظ الارتقاء"التي لا تسمح للعامل إلا بأن يظل في موضع اجتماعي واحد طيلة حياته .صحيح أن السيطرة العقلانية و تنظيم العمل يضمنان توازنا اجتماعيا و لكن ثمنه العامل نفسه ذلك أن "السيطرة تقتضي عقلانية أكبر" كما ذهب إلى ذلك ماركوز؛عقلانية الاستغلال و الابتزاز والتحكم "وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية؟" كما يتساءل ماركوز .
إنه لمن المؤسف أن نرى مسار التوازن الاجتماعي و العقلانية الاجتماعية يوازيه عكسيا تراجعا في قيمة الذات كقدرة على الإبداع و الخروج عن النمطية ؛و ما يجعلنا نتأسف أكثر هو تأقلم الأفراد مع هذه النمطية التي تجعل حتميات الاغتراب الاجتماعي قدرية يكون التأقلم معها أيسر الحلول .وبهذا المعنى يصبح الفرد نفسه متورطا في المساهمة في اغترابه عن نفسه .إننا إزاء اغتراب اجتماعي و قد تواطأت فيه أطراف عدة؛ العامل بخنوعه واكتفائه بالحاجة البيولوجية والعالم الذي يبرر التبعية والخضوع على أنهما مؤشران لانتماء الفرد ايجابيا للمجموعة و صاحب رأسالمال الذي شيأ العلاقات تحت راية المردودية والربح والنجاعة وصاحب السلطة السياسية الذي يتم الاستغلال تحت حراسته وتحت تشريعاته.
3-الطاقة الليبيدية :إشباع وهمي واستغلال فعلي :
لقد أصبح من الممكن الآن تجاوز الكبت. وأصبح من الممكن تصعيد الرغبات بدل قمعها وذلك من خلال " نقل مكونات الليبيدو النرجسي منها والعدواني وحتى الايروسي إلى مجال العمل" ولكن بقدر يحقق ما العامل تلبية وهمية لرغباته بقدر ما يحقق صاحب رأسالمال زيادة فعلية في الإنتاج. وبقدر ما يكون الاستغلال أقوى، بقدر ما يكون الإشباع الوهمي أكثر ليكون بذلك مكسب العامل وهميا، أما مكسب صاحب رأسالمال فهو فعلي ومن طبيعة مادية. وسواء أكان فرويد متورطا في هذه الدعاية الإنتاجية أم لا، وسواء قصد الاستغلال أم لم يقصد فإن الرأسمالية قد وجدت في الإعلاء و التصعيد مبتغاها وفلسفتها الخاصة لتوجه العامل إلى مزيد اغترابه في إشباع وهمي ثمنه الحقيقي استغلال فعلي. ولعل هذا ما تفطن إليه فرويـد، لقوله "إن أغلب الناس لا يعملون إلا تحت ضغط الحاجة.وعن هذا النفور الطبيعي من العمل تنشأ أكثر المشاكل الاجتماعية حدة "
4- تقسيم العمـل وتشتيت الذات :
إن تقسيم العمل يعني أن نسند للعامل مهمة جزئية تترابط في سلسلة من النشاطات الأخرى التي تسند لغيره دون أن يكون لأحد من العمال القدرة على الوعي بالمجموعة الذي تنتجه هذه السلسلة من الأعمال أو تلك.
وبهذا المعنى يكون تقسيم العمل مرتبطا بإنتاج أكثر عدد ممكن في أقل وقت ممكن وذلك ما لا يسمح للعامل حتى بالالتفات إلى غيره. فالعامل - إضافة إلى بيعه وقت عمله واغترابه عنه –يجد نفسه مغتربا أيضا عن بقية العمال، ذلك أن العلاقات حددت على أساس من التفرد وفق غاية الربح والمردودية ولا تسمح بالتعامل خارج هذه الغايات ذلك أن "المال يدمر الحب والصداقة والجمال لأنه يشتري الحب والصداقة والجمال" داخل علاقات يغلب عليها الإنتاج. إن ما كان يتمتع به الصانع الحرفي من الحرية وعلاقات اجتماعية أصبحت متعذرة ضمن نظام التألية والتشيئة وحتى الحلول الساعية إلى تجاوز الاغتراب خارج العمل بقيت وهمية وشكلية، فإقامة منتزهات ودور ترفيه وغيرها لا يمكن أن تكون إلا منحصرة ضمن انتظام حسابي للراحة و الترفيه باعتبارهما استعادة للنشاط الذي يقع بيعه في اليوم الموالي وهذا ما تفطن إليه نيتشة بقوله"إذا ما وجد الإنسان بعض اللذة أثناء الاختلاط بالناس ...فإنها من نوع اللذات التي يختص بها عبيد مرهقون بالسخرة "
إن فلسفة الممارسة التي بشر بها البعض على أنها "فلسفة وجود " تحولت إلى"هلوسة وجود" تجعل الإنسان منكفئا فقط داخل دائرة الفعل الذي ينسيه أي سعي للمتعة أو فلسفة الذوق.
وبهذا المعنى يتجاوز تقسيم العمل، العمل نفسه ليصبح تقسيما للحياة بأكملها وتحكما في العلاقات الاجتماعية للعامل ولمحيطه النفسي؛ فلا راحة إلا لاستعادة الجهد لبيعه في اليوم الموالي، و لا متعة إلا للاعتناء بالجسد كآلية إنتاج، ولا علاقة مع الأخر إلا ضمن حتميات العمل وآلياته.
5- إنتاج الطبيعة وتشيئـة الإنسان:
إن العالم الذي نعيشه اليوم لا يمكن أن نسميه طبيعة معطاة أو طبيعة طبيعية وإنما هو طبيعة من صنع الإنسان لقد تحقق المشروع الديكارتي المتمثل في سيطرة الإنسان وسيادته على الطبيعة وتمكن الإنسان من أن يتجاوز ندرة الطبيعة ليجعل منها وفرة ولكن ثمن ذلك هو الإنسان نفسه .إن أقل ما يفعله المستعمر هو أن يعلم الشعوب لغته وعلمه ولا يكون ذلك وفقا لأغراض إنسانيية بل على العكس ليعود الآخر على الامتثال لأوامره و الانصياع لتقنياته فالسيطرة على الطبيعة اقتضت بدورها سيطرة على الإنسان وإخضاعه لضرورات اجتماعية بعدما اعتقد في تحرره من الطبيعة "فلئن حرر العمل الإنسان من أسر الطبيعة فإنه قد أوقعه في أسر المجتمع و احل الضرورة الاجتماعية محل الضرورة الطبيعية " ولا يمكن للضرورة الاجتماعية أن تعترف بالوعي الذاتي طالما أن كل شيء مبرمج من خارج الذات نفسها. ليعود بذلك من جديد الفصل القديم بين العمل كنشاط جسمي والتفكير والتخطيط كنشاطين ذهنيين فكأنما قدر العمل أن يكون محكوما بالعبودية وتبقى كل محاولة لتحريره سعيا عبثيا يائسا.
.