الكونية بين الواقع والرهان
إعداد الأستاذ محمد علي كسيرة
التمهـيـد : ملابسات الكونية.
حين نطرح مسألة الكونية فإننا ننفتح على مسألة تخص الإنسـان وحـده وهذا ما يدفعنـا إلى البحث في مدى التوافق بين هذا الكائن وبين مسعى الكونية، فالإنسان يميل بطبعه إلى تحصين ذاته والدفاع عنها ضد كل الأخطار الخارجية وهذا ما يجعله يخشى الكونية خشيته للاحتواء والمعاصرة مما يقوي الإحساس لديه بغرابة الآخر وبغرابة الكونية كمظهر من الالتقاء بالآخر غير أنه حين ينغلق على ذاته تطارده ويلاق العزلة ولا يجد بدا من أن يستأنس بغيره. إن الغيرية بالنسبة للبدائي لا تفوق في مختلف أنشطتها دائرة العشيرة أو القبلية أما الغيرية المعاصرة فإنها قد بلغت من الاتساع ما يغطي العالم بأكمله، وإذا المجتمعات القديمة تتحرك في محيط ضيق لا يخرجها عن إطار الخصوصية فإن مجتمعاتنا المعاصرة قد انفتحت بفعل تكنولوجيا الاتصال إلى درجة لم يكن من الممكن أن ننأى عن منتجات الكونية التي تغرينا بالرفاه المادي وبالثراء المعرفي إنها تعدنا بتحويل لوجه الإنسانية من التقدم ما لم يشهد له العالم مثيلا ولكن في الآن نفسه فإنها تعيد من جديد تشكيل العالم وتشكل الخصوصيات وفق منظور مغاير يتجدد بأوانها.
تتحدد نواتها المركزية في كونية العلم مما يغري بتوسيعها لتشمل السياسة والاقتصاد والثقافة, فهل هي كونية مغايرة وتنويع أم كونية فهو للكل ضمن المماثلة ؟ وهل الإنسان غاية للكونية أم أداتها ؟ وهل تتردد كونية العلم كونية ؟ النموذج الديمقراطي سياسيا ؟ وهل أن ثقافة الاستهلاك والرفاه هي فك لأزمة التفاوت الاقتصادي بين البشر أم تعميقا لها ؟ وهل في القول بثقافة كونية ما يحافظ على التنوع؟
I- الكونية : أزمة مزمنة أم صعوبات ظرفية ؟
تحمل الكونية في معنى لوحدة التي تجمع الإنسانية في كليتها بما يرتبط به من استعدادات خاصة لدى الفرد الإنساني على الانفتاح على كل البشر وهذا ما يتعذر وجوده لدى الحيوانات التي تجبرها الغريزة المحدودة على التحرك في محيط محدود. كما أنه بإمكاننا تمثل دلالتها في معنى توسيع نموذج معرفي أو سياسي أو ثقافي حين تتأكد قدرته في محيط اجتماعي خاص، غير أن النظر إلى الكونية -سواء الرهان الذهني أو من جهة الرهان الواقعي المادي- يجعلنا نتبين أنها يسيرة من جهة ما يجب أن يكون ولكنها عسيرة من جهة ما هو كائن؛ ذلك أن ما هو كائن بالأساس هو الخصوصية التي تسعى للدفاع عن نفسها دفاعها عن وجودها. والخصوصية هي كل ما يتعلق بالخصائص المميزة لهوية ما سواء في معنى الفرد قبالة غيره من الأفراد أو مجموعة سياسية أو نقابية مقابل غيرها بالمنافسة وفرض الذات الجماعية، أو قومية ما أو أمة تسعى إلى المحافظة على ما يجعل منها متماثلة مع ذاتها ومغايرة لغيرها بما يعنيه ذلك من حرص على تجنب السقوط في احتواء الآخر المغاير، فالحرص على الخصوصية هو نفسه الخشية من الإبادة؛ والحقيقة أن هذا الموقف العدائي تجاه الكونية له ما يبرره، فقد أبيدت حضارات بأكملها كحضارة الهنود الحمر في أمريكا مثلا، وتعرضت الآثار القديمة آلاف المرات في حقب متعاقبة للتدمير، فيكون بذلك الدفاع عن الخصوصية هو العقبة الأساسية في وجه الكونية، كونية اقترنت بالتخويف وسحق الخصوصيات، ألم يكن الاستعمار العسكري -ذو الأطماع الاقتصادية- متسترا بغطاء كونية العلم و الثقافة "فقد "ارتبطت الثقافة بالنفوذ.. فالإمبريالية هي النتيجة المنطقية لادعاء الكونية " كما يؤكد ذلك هنتغتون وأن تكون الكونية إدعاء، فمعنى ذلك أنه لا وجود إلا لخصوصيات حتى وإن اتخذت أوجها ملتوية ومتعددة، فكل المجتمعات تمكن أفرادها من الدفاع عن أنفسهم بتمكينهم من القواعد الأساسية للخصوصية. صحيح أنه قد يكون الطموح إلى الكونية والتوسع واقعا ولكن "كل أشكال التنشئة الاجتماعية تتضمن منظورا عالميا في جوهره متمركز عرقيا" -كما يذهب إلى ذلك ريتشاردسون- ويسعى إلى فرض إيديولوجيته الخاصة على غيره وإن المناطق الساخنة ودائمة الصراع كالهند وباكستان والشرق الأوسط تعاني من سعي الخصوصيات إلى فرض نفسها على أنها كونية ولكن لو عدلت عن الكونية واعترفت بخصوصيات مغايرة متنافرة ومتباعدة لكان السلم أكثر اتساعا ولكانت الحرب أقل انتشارا. إن وعود الكونية لا تبدو واضحة المعالم ولا تبدو مشروطة بضمانات وتأمينات وإنما هي تراوغ بين آليات القوة من جهة وآليات الإغراء والوعود من جهة أخرى فأزمة الكونية هي أزمة في منطلقاتها ومقوماتهـا بالأساس لأنها لم تنبن من جهة المنطلق على التقـاء خصوصيات بل هي توسيع لخصوصية غربية وتقديم نفسها على أنها كونية. وكأن كل المجتمعات -فيما عدا الغربية منها- متوحشة وتحتاج إلى توعية وتثقيف، وما يبدو غريبا أن تطال هذه القناعة الفلاسفة أنفسهم؛ ألم يؤكد جاك دريدا ذلك بقوله "لا أعتقد أنه بإمكاننا التحدث عن المنطقية المركزية في أي ثقافة أخرى غير الغربية". وإن كونية تقوم على قناعة كهذه يتعذر قبولها أو الدفاع عنها، فالكونية تضعف نفسها بنفسها إن هي انبنت على أسس تفاضلية مؤداها الأخير أن الغرب أسند إلى نفسه وسام كونية تعتبر الآخر متوحشا ولقد انتهى ليفي بريل-وهو باحث أنتربولوجي- إلى القول بأن الكثير من المجتمعات الهندية والإفريقية "يكاد التفكير يكون معدوما لدى هؤلاء الناس وإذا اتفق لهم أن يفكروا، فإن تفكريهم لا يسمو إلى ما فوق الأمور المادية التافهة". وبهذا المعنى نتبين أن أزمة الكونية هي على درجة من التعقيد يصعب فكها؛ فهي تواجه خصوصيات تقاوم الاحتواء ولكنها تواجه تعثرا في منطلقاتها ومقوماتها مما يضعف عن مشروعيتها واستساغتها بشكل عالمي وبالتساوي بين جميع الخصوصيات ولكن ألا يقتضي الأمر تغييرا في دلالة كل الكونية والخصوصية حتى تتحول الأزمة الممكنة إلى صعوبات ظرفية ؟
II- مشروعية الكونية :
1- المشروعية الإنسانية :
إن ما يميز الإله هو التوافق التام بين إرادته وتعقله فالإله متعقل بشكل كلي للعالم وبالمقابل لا يحتاج الحيوان إلى تعقل ما هو كلـي وإنما يكتفـي بإدراك محيطـه بصفة جزئية على الدوام ولا يداخله أي توتر أو إحساس بالنقص المعرفي. خلافا للمطلق الإلهي والجئي الحيواني، فإن الإنسان يعيش تفاوتا بين إرادته للمعرفة وقدرة عقله الإحاطة بها، وهذا ما يجعل العقل في دلالته الفردية عاجزا عن تمثل العالم؛ وإن كانت رغبة المعرفة لا تغادر الفرد فلأن الإنسان في حاجة إلى "تمثل موحد ومنسجم للعالم الذي يحيط به" فالعقل –كقدرة- لا يمكن تمثله في شكله الفردي بل في شكله الإنساني فكونية الإنسان هي كونية العقل نفسه.
تنضاف إلى الحاجة المعرفية نقصا عمليا، فلا يمكن للإنسان أن يكون قادرا على تحقيق كل حاجياته العملية بنفسه ذلك أن "كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج" وإذا كانت الحاجة تفوق القدرة، وإذا كانت حاجياتـنا تتعدى الطابـع الغـريزي لتتضاعف ثقافيا وبشكل مطرد، فإن الانفتاح على الكونية قد يكون ضمانا لتحقيقها ومواكبة تنوعها المتجدد على الدوام.
ويمكننا أن ننتهي تبعا لذلك، إلى أن قصور العقل ذاتيا وكذلك قصور القدرة جسديا يحملان الإنسان إلى الانفتاح على الغيرية، انفتاحا يشهد عليه التاريخ باستمرار مما يشرع إلى القول بأن الكونية ليست اصطناعا تعسفيا فرضته مصالح اقتصادية وأغراض إيديولوجية، بقدر ما هي استجابة لطبيعة الإنسان نفسه.
2- المشروعية التاريخية :
إن مسألة الفصل بين الإنسان والتاريخ تبقى فرضية ذهنية يكذبها التاريخ الإنسان نفسه، فالإنسان ليس ماهية متفردة، وإنما هو كيان يقع تشكيله ثقافيا من خارج الذات نفسها. إن الأمر نفسه ينطبق على ميلاد الحضارات إلى درجة أمكننا أن نسلم فيها مع ماركس أن الإنسانية نفسها هي صنع ثقافي وليس معطى طبيعيا. والأمر نفسه ينطبق على ميلاد الحضارات الخصوصية التي لم توجد من عدم وإنما هي امتداد لكونية حضارة واحدة هي حضارة إنسانية ومثلما أنه من الصعب أن نتحدث عن نقاء عرقي، فإنه من المستحيل أن نتحدث عن خصوصية ثقافية لا تجتمع فيها منجزات كونية سابقة. وما الإنسانية في لحظة تاريخية ما إلا ثمرة لثقافة كونية ممتدة في التـاريخ : "إن ما ننجزه عملاقة في غابـة بكر نخرها الزمن، وتستطيع أن تمد أغصانها النخرة طوال قرون وآلاف من السنين" وإذا كنا نفصل بين ماضي الإنسانية وحاضرها أو بين حضارة قديمة وحضارة غربية معاصرة، فذلك مجرد فصل زمني لأن التاريخ واحد والواقع واحد.
3- المشروعية الواقعية
إذا كانت الحضارات السابقة قد انبنت على خصوصيات متباعدة ومتمايزة بشكل كلي، فإن الحضارات المعاصرة لم تنبن إلا على جملة من الخصائص المشتركة التي لا يمكن تجزئتها إلى خصوصيات؛ فبعض الحضارات الهندية السابقة لم تكن لها أي جامع مشترك مع بعض الحضارات الإفريقية ولكننا لا يمكن أن نفصل اليوم بين الحضارة البريطانية مثلا والحضارة الأمريكية كما أنه لا يمكن أن نجزأ الحضارات طالما أن الأعراق كلها قد ساهمت في بنائها فالحضارة الغربية هي الحضارة التي استطاعت أن تجمع كل المنجزات السابقة وتفككها إلى جملة من التقنيات الضرورية لإعطاء وجه جديد لحضارة وهي- في أصلها ومأتاها- كونية بالأساس ومثلما أن الاستفادة من العلم والتقنية تشمل كل البشر، فإن الأزمات السياسية والعسكريـة والاقتصاديـة تطال العالـم بأكمله؛ فالتوترات السياسيـة قد تنعكس على العملة وارتفاع الأسعار بل تطال المقدرة الشرائية لأبسط المستويات الاجتماعية. وكذلك فإن التجارب النووية والذريـة والإشعاعيـة لا تنحبس في مواقـع جغرافيـة محددة، بل تطال البشريـة جمعاء.
إن وحدة الكيان البشري تجد مشروعيتها في لحظات الرخاء وكذلك في لحظات التأزم مما يؤكد القول بأن الكونية ليست مجرد أفكار بل هي واقع.
إن فاعلية الحضارات المتعاقبة لم تكن جزئية أو هامشية، بل هي التي تٌثور الواقع وتغيره وتطوره. غير أن التطور لا يكون صفة من صفات الواقع بل هو الواقع نفسه الذي يطرأ على البشرية جمعاء؛ فثورة تكنولوجيا الاتصال لم تعد تسمع بانغلاق الخصوصية بل يبدو العالم بأكمله منكشفا على ذاته ليستفيد البشر من مختلف الإنجازات. إن الأمر لم يعد قابلا لطرح سؤال: كيف نقوى على تجسيد خصوصياتنا ؟ بل على العكس: كيف نجعل منها فاعلة ومساهمة في الكونية؟ وبدل التقبل السلبي -إما بالرفض أو بالإذعان- يكون من الضروري تعقل الكونية وإعادة تعقل الخصوصية وهذا ما يستوجب التفكير في شروط تجنب التصادم بين الخصوصيات الممتدة تاريخيا زمنيا وبين كونية تتمدد جغرافيا ومكانيا؛ فهل الكونية أمر ممكن أم هي بوادر تبقى حبيسة طموحات خاصة ؟ وهل يمكن وضع شروط مرحلية لتحققها أم أن تلقائية الاستفادة منها تغني عن ذلك ؟ وهل نخشى تعصب الخصوصيات وانغلاقها أم نخشى غطرسة الكونية واستبدادها ؟ وهل عقلنة الشروط تكفي لتجعل من الكونية إنسانية؟